أجمل زهرة. قصة رائعة للتأمل
كان المقعد في الحديقة فارغًا عندما جلست للقراءة تحت فروع أشجار الصفصاف القديمة المجللة بحزن مهيب.
كنت غارقا في إحساس عميق بخيبة الأمل من الحياة، وجهي المغضن بالكآبة والعبوس يثير النفور في ملامح الناس الذين ينظرون إلي بتوجس وحذر. ويبتعدون عني بخطوات متسارعة.
كنت أشعر أن الحياة قد أخذت مني كل شيء. لم تترك لي سوى اليأس القاتل والهم الذي لا ينزاح أبدا ولا يزول. ظلام ثقيل يثقل دواخلي الخربة، يشعرني أني جثة هامدة غادرتها طراوة الحياة وفخامة الأمل الجميل.
فجأة تراءت لي هامة صبي صغير يتوجه نحوي بخطوات متعثرة ووجه غض بريء.
وقف أمامي بعفوية عجيبة، مال برأسه قليلاً نحوي وقال متحمسًا:
"انظر ماذا وجدت!"
ألقيت نظرات متعبة نحوه، فرأيت يديه ممدودتين، كان يحمل بين أصابعه الصغيرة زهرة مثيرة للشفقة حقًا، زهرة ذابلة، غاب عنها المطر والضوء كما غابت عني حلاوة الحياة وطراوة العيش السقيم.
أردت منه أن يأخذ زهرته الميتة، وأن يبتعد عني لأتفرغ لحزني ويأسي وشرودي البهيم. أمرته أن يعود إلى اللعب، ومنحته ابتسامة رقيقة صفراء، ثم ابتعدت كالهارب الممسوس.
لكن بدلاً من المغادرة، جلس الطفل الصغير بجانبي، ورفع الزهرة إلى أنفه، ثم قال بمفاجأة غير مقنعة:
"إن رائحتها زكية، وهي جميلة أيضًا، لهذا السبب قطفتها لأقدمها إليك، هذه هدية لك مني، خذها يا سيدي".
كانت الزهرة ذابلة تحتضر أو ربما كانت قد ماتت بالفعل.
لكن ألوانها لم تكن قد تلاشت بعد، فكان لونها معقد التركيب تتداخل فيه الأصباغ البرتقالية والصفراء والحمراء في نسق عجيب.
ولكي اشجع الطفل الصغير على المغادرة والابتعاد عني، كان علي قبول هديت، فمددت يدي نحو الزهرة، وقلت:
"شكرا لك، ربما تكون هذه الزهرة هي كل ما أحتاجه فعلا."
وبدلاً من وضع الزهرة في يدي، أمسكها الطفل الصغير ورفعها في الهواء دون سبب واضح. بدا كأنه لا يدرك حجم المسافة بيني وبينه، ولا يعرف بالضبط كيف يصل إلى يدي ليضع فيهما زهرته الذابلة.
عندها لاحظت لأول مرة أن الصبي لا يستطيع رؤية الزهرة، ولا يستطيع ان يراني، ولا يستطيع أن يرى ما حوله ولا ما فوقه ولا ما تحته... كان الطفل الصغير أعمى.
سمعت صوتي المرتجف وهو يردد بتأثر لم يلامس قلبي مثله ابدا: سبحان الله. وانسابت الدموع سخية دافئة من عيوني المشدوهة، وشكرته على تلك الهدية التي اكتست فجأة في عيوني قيمة تفوق قيمة كل ما تلقيته في حياتي من هدايا.
فأجاب: "العفو سيدي"، وابتسم ابتسامة بريئة ثم عاد إلى ألعابه دون أن يعرف أنه حول ألمي إلى يوم مشرق، وحول موتي إلى حياة، وانتشلني من جحيم اليأس والقنوط الذي كنت غارقا فيه بدون قدرة حقيقة على الخروج منه أو الإفلات من قبضته.
تساءلت كيف استطاع هذا الطفل الصغير الذي حرمه الله من نعمة البصر أن يرى رجلا تحت شجرة صفصاف عجوز؟ كيف استطاع أن يشعر بحزني ويأسي؟ من اين جاء بهذه الشفقة التي لم أر مثلها في عيون الناس الذين يبصرون والذين كانوا يبتعدون عني وينفرون مني كأني كلب أجرب.
كيف شعر هذا الطفل الأعمى بالضيق الذي كنت أشعر به؟
لا شك أن ذلك الطفل الصغير الأعمى كان يملك من البصيرة النافذة ما مكنه من رؤية الحقيقة بعيون القلب؛ حقيقة عذابي الذي لم يره أحد سواه.
من خلال عيون طفل أعمى، تمكنت أخيرًا من رؤية أن الظلام لا يوجد في العالم كما توهمت وظننت، بل يوجد في دواخلي أنا؛ ليس العالم هو المشكلة بل المشكلة هي نفسي التي أغرقتني في الكارثة والمأساة، وأوهمتني أن الحياة لعنة، وان الموت خلاصا، وأن اليأس فطنة، وأن الخمول هو كل قسمتي من هذه الحياة.
ولأنني كثيرا ما تجاهلت الجمال، ولأنني كثيرا ما رأيت الظلام ولا شيء سواه، ولأنني كثيرا ما أحسست أن الحياة ضدي، وأن كل الناس أعدائي، أقسمت أن أرى الجمال في الحياة، وأن أقدر كل ثانية ستمنح لي، وأن أحب كل الناس لا لشيء إلا لأنهم ضعفاء مثلي، أقسمت ان أستشعر قيمتي وقيمة ما وهبني ربي، أقسمت أن أغرس الأمل في كل صباح ليصير زهرة تضيء جوانب قلبي، أقسمت ان أرسم ابتسامة محبة على شفتي، وأن أحفر في قلبي كلمات الحمد والشكر على النعم التي وهبني ربي.
حملت الزهرة الذابلة إلى أنفي وشممت رائحة الوردة الرائعة التي أهداها لي الطفل الصغير. ابتسمت عندما تذكرت هذا الصبي الأعمى،وهو يحمل زهرة في يديه الصغيرتين، ويستعد ببراءة لتغيير حياة رجل عجوز.
المؤلف: شيريل كوستيلو فورشي
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقا لتشجيعنا على تقديم الأفضل والمفيد