القائمة الرئيسية

الصفحات

منهج البحث الاجتماعي: من التأسيس إلى النضج والاكتمال

 منهج البحث الاجتماعي: من التأسيس إلى النضج والاكتمال

أحمد أبو زيد


يفترض علم الاجتماع الحديث أن المجتمعات تخضع لقوانين معينة؛ وأن هذه القوانين تصدر بالضرورة عن طبيعة تلك المجتمعات وتعبر عنها. وكان تكوين هذا التصور بطي


علم الاجتمتع عند دوركهايم

يقترن اسم إميل إميل دوركهايم بعلم الاجتماع؛ فهو الذي أخرجه في صورته الجديدة التي هو عليها الآن، وجعل منه علماً مستقلاً له منهج مستقل لا يعتمد على العلوم الأخرى، بعد أن كان العلماء يعتمدون في تفسيرهم للظاهرات الاجتماعية على أحد منهجين: إما المنهج البيولوجي الذي وضعه هربرت سبنسر في إنجلترا، وهو ينظر إلى المجتمع على أنه كائن حيوي يمكن تفسير ظاهراته تفسيراً حيوياً يعتمد على علم الحياة وعلم وظائف الأعضاء؛ وإما المنهج السيكولوجي، ومن أكبر أنصاره تارد الفرنسي الذي يفسر المجتمع بغريزة التقليد. أما إميل دوركهايم فقد جعل علم الاجتماع موضوعاً قائماً بذاته لا يعتمد في تفسير ظاهرات المجتمع على غير هذه الظاهرات نفسها، فجعله بذلك علماً في مصاف العلوم الأخرى من جهة الموضوع والمنهج؛ وقد كتب إميل دوركهايم كتابه الشهير (قواعد المنهج الاجتماعي يبين فيه طبيعة العلم والمنهج الذي يجب اتباعه في دراسته، ثم لخص ذلك كله في مقالته: (علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية التي نشرت في كتاب مناهج البحث في العلوم وهي التي نقدم لقراء الرسالة تلخيصها.

 

تناول إميل دوركهايم موضوعه من الناحية التاريخية مبيناً نشأة علم الاجتماع وتطوره، ثم قسم العلم إلى الأبواب التي يدرسها؛ وأخيراً بين المنهج المتبع في الدراسات الاجتماعية، وهو منهج يعتمد عند إميل دوركهايم على التاريخ والإحصاء؛ لا كعلمين بل كطريقتين للبحث العلمي

 

علم الاجتماع: نظرة تاريخية

إن أحسن وسيلة تتبع في دراسة علم من العلوم التي لا تزال حديثة مثل علم الاجتماع، لتوضيح طبيعته وموضوعه ومنهجه، هي الرجوع إلى الوراء لنبين كيف ابتدأ وكيف تطور. . . لقد كان أوجست كونت أول من وضع لفظ (سسيولوجيا في القرن التاسع عشر قاصداً به علم المجتمعات. . . فالاصطلاح إذن جديد والعلم جديد، وإن كان هناك دراسات نظرية عن الموضوعات السياسية والاجتماعية وجدت قبل كونت: في (جمهورية) أفلاطون و (سياسة) أرسطو، وكتابات كامبانيللا وهوبز وروسو وكثيرين غيرهم. ولكن هذه الدراسات كلها تختلف اختلافاً جوهرياً عما يصدق عليه الاصطلاح الجديد. إ تصف ولن تفسر المجتمعات على ما هي عليه، ولكنها كانت تبحث عما يجب أن تكون عليه تلك المجتمعات؛ بينما علم الاجتماع يدرس المجتمعات على ما هي عليه في الواقع ليعرفها ويفهمها كما هي مثلما يفعل الفيزيقي، والكيميائي، والبيولوجي، في دراستهم للظاهرات الفيزيقية والكيميائية والحيوية. فعلم الاجتماع إذن لا يريد إلا أن يعين الظاهرات التي يتناولها بالبحث وأن يكشف عن القوانين التي تنتج بمقتضاها هذه الظاهرات دون أن يهتم بالناحية العملية أدنى اهتمام

 

علم الاجتماعي وقوانين المجتمعات

يفترض علم الاجتماع الحديث أن المجتمعات تخضع لقوانين معينة؛ وأن هذه القوانين تصدر بالضرورة عن طبيعة تلك المجتمعات وتعبر عنها. وكان تكوين هذا التصور بطيئاً، فقد كان الناس يظنون أن ليس ثمة شيء - حتى الجمادات نفسها والمعادن - يخضع لقوانين معينة، بل إن كل شيء يمكنه أن يتخذ أي شكل كان، وأن يكتسب كل الخصائص الممكنة ما دام هناك قوة كافية لذلك. ونفس هذا التفكير كان يسيطر على عالم الظاهرات الاجتماعية. والواقع أنه لما كانت تلك الظاهرات الاجتماعية معقدة تمام التعقيد، كان من الصعب أن ندرك النظام الذي يمثلها، وبذلك ظن الناس أن ليس ثمة نظام بينها، وأن كل شيء ممكن في الحياة الاجتماعية. أليست الظاهرات الاجتماعية تتعلق بنا نحن أفراد المجتمع، وبنا وحدنا؟ وإذن يمكننا بإرادتنا أن نعدل فيها وأن نصوغها في أي شكل نريد. ومن هنا انصرف التفكير إلى البحث عما يمكن أن نفعله كيما نصوغها في أحسن صيغة ممكنة. . . ولكن في القرن الثامن عشر ابتدأ الناس يرون أن (المملكة الاجتماعية) لها قوانينها الخاصة ككل (ممالك الطبيعة) الأخرى؛ فأعلن مونتسيكو أن (القوانين هي العلاقات الضرورية التي تستخرج من طبيعة الأشياء)، وقوله هذا ينطبق على (الأشياء الاجتماعية) انطباقه على جميع الأشياء الأخرى ثم جاء كوندرسيه فأراد أن يضع النظام الذي يسير على رأيه التقدم البشري، وأن يرسم أحسن حالة توضح أن ليس ثمة شيء يحدث عرضاً أو يأتي اعتباطاً، بل إن كل شيء يحدث حسب علل معينة. وفي نفس الوقت كان الاقتصاديون يرون أن ظاهرات الحياة الصناعية والتجارية يسيطر عليها قوانين خاصة تسير بحسبها مع أن هؤلاء المفكرين كانوا يمهدون السبيل للفكرة التي يرتكز عليها علم الاجتماع الحديث، فإن فكرتهم عن قوانين الحياة الاجتماعية كانت لا تزال غامضة مبهمة؛ فهم لم يقولوا - ولم يريدوا أن يقولوا - إن الظاهرات الاجتماعية تسير في تسلسل وارتباط وحسب علاقات علية - علاقة معلول بعلته - وأن تلك العلاقات محددة ثابتة لا تتغير كما هو الحال في العلوم الطبيعية. فكانوا يرون أن الإنسانية يمكن أن تنقلب من حال إلى حال بدون استثناء

 


علم الاجتماع في القرن التاسع عشر

ولكن في القرن التاسع عشر ظهر فهم جديد على يد سان سيمون أولاً ثم - على الخصوص - على يد أوجست كونت: فقد استعرض كونت في كتابه المعروف (دروس في الفلسفة الوضعية جميع العلوم في عصره، فرأى أنها تقوم على أن الظاهرات التي تعالجها تربطها علاقات ضرورية، وأنها ترتكز على مبدأ الجبرية فذهب إلى أن ذلك المبدأ الذي يتحقق في جميع ممالك الطبيعة من أول مملكة الرياضيات، حتى مملكة الحياة يجب أيضاً أن يتحقق في المملكة الاجتماعية، وبذلك ذهب المفكرون في أيامه عن النظر إلى المجتمعات كنوع من لمادة المائعة المطاطة التي يمكن للإنسان تشكيلها كيفما أراد؛ وإنما هي حقائق ووقائع لا يمكن تغيرها إلا بمقتضى القوانين التي تسيطر عليها وتوجهها. وعليه فإن نظم الأمم المختلفة مثلاً لا يمكن اعتبارها نتاجاً لإرادة الأمراء والحكام والمشرعين بل على أنها نتائج ضرورية لعلل معينة. فنحن نجد أنفسنا إذن أمام نظام للأشياء ثابت معين، وأمام علم يقوم لوصف هذا النظام وتفسيره وتبيين خصائصه وإظهار أي العلل تعتمد عليها هذه الخصائص. وهذا العلم نظري بحت ليس للجانب العملي فيه أي دخل؛ وهو علم الاجتماع. وكان أوجست كونت يسميه أولا بالفيزيقا الاجتماعية كما يبين العلاقات التي تربطه ببقية العلوم الأخرى

 

ولكن، لا يعني ذلك أن المجتمع خاضع لنوع من القدرية لا يمكن الإفلات منها، وأن الناس لا يمكنهم أن يعدلوا من مجتمعهم وبذلك لا يمكنهم أن يؤثروا قط في تاريخ بلادهم؟ الواقع أن لا؛ فإن العلوم الوضعية كلها تخضع لمبدأ الجبرية دون أن يمنع ذلك من وجود تغيرات في كل منها: فعلم الطبيعة مثلاً لا ينكر وجود تغيرات في ميدانه الخاص، ولكن تلك التغيرات تكون حسب قوانين موضوعه الخاصة. وعلم الاجتماع قبل كل شيء أعقد العلوم الوضعية كلها، وإذن فمجال التغيرات فيه أوسع من أي منها. وهو لا ينكر وجود تغيرات وتعديلات في المجتمع ولكن الذي ينكره هو ألا تكون هذه التعديلات متمشية مع طبيعة قوانين المجتمع. وهو يرفض الفكرة القديمة في أن المشرعين يمكنهم أن يغيروا المجتمعات حسب أهوائهم من نوع إلى نوع آخر مختلف عنه تماماً دون مراعاة العادات والتقاليد والبناء العقلي لأفراد المجتمع وهكذا.

 

الاعتراضات على علم الاجتماع

وقد اعترض البعض على علم الاجتماع بأنه لا يتميز عن علم النفس، بينما كان من شرائط العلم الحقيقي أن يكون قائماً بذاته لا يختاط موضوعه بموضوعات العلوم الأخرى. ومادام المجتمع لا يتكون إلا من الأفراد، فعلم المجتمعات إذن لا يتميز عن علم الأفراد أي علم النفس، ولكن لو صح هذا الاعتراض لوجب توجيهه إلى علم مثل علم الحياة (البيولوجيا) فهو - حسب هذه النظرة - ليس إلا جزءاً من علم الطبيعة والكيمياء، لأن الخلية الحية مركبة من ذرات من الكربون والأزوت وغير ذلك، وهنا تدرسها الكيمياء العضوية. . . الواقع أن هؤلاء المعترضين ينظرون إلى الكل نظرتهم إلى الأجزاء التي يتكون منها، بينما الأجزاء متى تدخل في الكل تفقد خصائصها الجزئية وتظهر بدلاً منها خصائص أخرى لا توجد في الجزيئات. هكذا الحالة في الخلية التي يدرسها علم الحياة. وهكذا الحال في المجتمعات التي يدرسها علم الاجتماع؛ فإن من ارتباط الناس بعضهم ببعض تظهر حياة جديدة مختلفة بالمرة عن حياة الأفراد لو عاش كل منهم وحده إن الشرائع والمعتقدات الدينية والنظم السياسية والتشريعية والخلقية والاقتصادية، وعلى العموم كل ما يكون الحاضرة، لا يوجد إذا لم يكن تحت مجتمع ما، وبذلك فعلم الاجتماع غير علم النفس

 

علم الاجتماع كما وضعه أوجست كونت

وقد اتسع نطاق العلم وتعددت ميادينه في السنوات الأخيرة وتخصص له عدد كبير من العلماء وخاصة في فرنسا، ولا زال العلم متحفظاً إلى الآن بمبدئه الأساسي: مبدأ الجبرية الكلية في المملكة الاجتماعية كما في بقية ممالك الطبيعة الأخرى. ويعزز من هذا المبدأ ما يذكره علماء الاجتماع من أن هناك نظماً خلقية أو تشريعية أو عقائد دينية معينة توجد مشتركة بين جميع المجتمعات التي تتشابه فيها شروط الحياة الاجتماعية وظروفها. ومهما كانت تلك المجتمعات متباعدة بعضها عن بعض، فإن تلك النظم تتشابه، حتى الدقائق والتفصيلات.

 

موضوعات علم الاجتماع: العلوم الاجتماعية الجزئية

يميز كونت في علم الاجتماع بين قسمين: الاجتماع الاستقراري والاجتماع الديناميكي (التطوري). ويدرس الاجتماع الاستقراري المجتمع من حيث هو ثابت في وقت معين من حياته، ويبحث عن قوانين توازن المجتمعات؛ فإن الأفراد يحيون في كل لحظة حياة معينة، وتقوم بينهم علاقات معينة تكفل التماسك الاجتماعي. ويجب أن يكون هناك نوع من العلاقات المحددة بين جميع مظاهر الحضارة المختلفة في كل وقت، بمعنى أن حالة معينة من العلم مثلاً يتصل بها حالات معينة من الدين والأخلاق والفن والصناعة وما إلى ذلك؛ فالاجتماع الاستقراري إذن يبين هذه العلاقات والروابط التي يقوم عليها التماسك الاجتماعي. أما الاجتماع التطوري فإنه يدرس المجتمع في تطوره ويبحث عن قوانين ذلك التطور. ويرى كونت أن هناك قانوناً واحداً للتطور هو (قانون الحالات الثلاث تمر الإنسانية بمراحلها في تطورها؛ والإنسانية تتطور دائماً. وهذه المراحل أو الحالات هي: المرحلة اللاهواتية، فالمرحلة الميتافيزيقية، فمرحلة العلوم الوضيعة. ولما كان علم الاجتماع أعقد العلوم الوضيعة كلها فإنه يتناول، لا مشكلة واحدة فحسب، بل مشاكل ومسائل مختلفة ومتعددة بتعدد مظاهر الحياة الاجتماعية. فهناك إذن فروع لعلم الاجتماع، أو علوم اجتماعية جزئية بمقدار تلك المظاهر المختلفة للظاهرات الاجتماعية التي لم تحص بعد. ويرى دور كايم أن من سبق الوقت أن نضع تصنيفاً منهجياً للظاهرات الاجتماعية لتعقدها وتعددها، ولكن من الممكن، في نظره، أن نبين بشكل ما الأقسام الرئيسية التي ينقسم إليها علم الاجتماع

 

إن أول ما يتوجه إليه نظر الاجتماعي هو المجتمع من ناحية الخارجية، فيظهر له أنه تكون من كتلة من السكان لها عدد معين وكثافة معينة، وتسكن أرضاً معينة تتوزع عليها بشكل معين، وتربطه بما حوله من المجتمعات علاقات وصلات وروابط معينة، وفيه طرق ومواصلات تفرضها طبيعة الأرض، وهكذا. ولا شك أن ذلك كله من العوامل العامة التي لها أثرها في الحياة الاجتماعية، بل إنها أساس تلك الحياة. فكما أن الحياة النفسية في الفرد تتغير تبعاً للبناء التشريحي للمخ، كذلك تختلف الظاهرات الاجتماعية حسب اختلاف البناء الاجتماعي. فلا بد إذن من وجود علم اجتماعي يكون بمثابة علم التشريح، ويدرس التكوين المادي الخارجي للمجتمع. هذا العلم هو ما يسميه دور كايم (بالمورفولوجيا الاجتماعية) (أو علم تركيب المجتمع) ولا تصف المورفولوجيا الاجتماعية المجتمع وتركيبه فحسب، بل تحاول تفسير ما تراه، فتفسير مثلاً سبب تجمع السكان في موضع دون آخر، وهل التجمع يكون في المدن أكثر منه في الريف أو العكس وسبب ذلك، وتبين سبب نشأة المدن الكبرى وهكذا. فهي أشبه شيء بالجغرافية البشرية. . . وواضح من ذلك أن هذا العلم الجزئي يعالج بدون موضوعات ومشاكل مختلفة ومتعددة

 

علم الاجتماع والمورفولوجيا الاجتماعية

ولئن كانت المورفولوجيا الاجتماعية تدرس الهيكل المادي الخارجي للحياة الاجتماعية، فإن هناك علماً آخر يدرس هذه الحياة نفسها، وهو ما يسمى بعلم الوظائف الاجتماعية (أو النظم الاجتماعية) وهذا العلم معقد أيضاً أشد تعقيد ومركب من عدة علوم جزئية مختلفة

 

فهناك أولا المعتقدات والنظم والشعائر الدينية. والدين ظاهرة اجتماعية لا يمكن أن تتمثل إلا في مجتمع، وتدعمه جماعة أو هيئة لها أصول ومراسيم تسير عليها دائماً؛ وهذه الهيئة هي الكنيسة في أوربا. وكثيراً ما يتدخل الدين في السياسة ويتصل اتصالاً قوياً بالسلطة السياسية. وللدين - ويدخل في ذلك الخرافات والأساطير وما شابهها عند البدائيين - سيطرة قوية على النفوس، ولابد للمجتمع أن يحترمه ويخضع له. ويرى إميل دوركهايم أن دراسة الدين هي أهم ناحية في دراسة المجتمع، وهي تكون ما يسمى بالاجتماع الديني ثم هناك الأخلاق والعادات، وهي أيضاً ظاهرة اجتماعية هامة، فلا يمكن تصور إنسان أخلاقي يحيا وحده، إنما تنشأ الأخلاق من اتصال الناس وتتعلق بمعاملات بعضهم لبعض في المجتمعات؛ وفرع علم الاجتماع الذي يدرس الأخلاق هو الاجتماع الأخلاقي ويتصل بالاجتماع الأخلاقي فرع آخر هو الاجتماع القانوني وهو يدرس النظم التشريعية، والقانون الذي يتصل أشد الاتصال بالحياة الاجتماعية وينظمها، ويحدد أفراد المجتمع. وهناك أيضاً النظم ويدرسها الاجتماع الاقتصادي وهو يبحث كل ما يتعلق بالإنتاج والمبادلة والثروات والتوزيع. هذه هي الفروع الرئيسية؛ ولكن هناك علمين جزئيين آخرين هما الاجتماع اللغوي الذي يدرس اللغة من حيث هي ظاهرة اجتماعية تعتمد في وجودها على وجود مجتمع ما بين أفراده معاملات وصلات، ومن حيث هي تحمل خصائص المجتمع الذي توجد فيه، بحيث يمكن الاستدلال من اقتراب اللغات على اقتراب الشعوب. ثم أخيراً هناك الاجتماع الجمالي وهو يدرس أعمال الفن؛ فإن الفنان - شاعراً كان أو خطيباً أو مثالاً أو نقاشاً - يظهر ذاتية مجتمعه الخاصة في أعماله، فهو يستمد معانيه الفنية من البيئة الاجتماعية في عصر معين فيعبر عنها ويخاطب بها أناساً غيره، مما لا يتيسر إلا في مجتمع

 

وقد درست بعض هذه الأبواب من قبل إميل دوركهايم وخاصة الظاهرات الاقتصادية التي كانت تدرس تحت اسم (الاقتصاد السياسي ولكن هذا العلم كان يهتم بما يجب أن يكون أكثر من اهتمامه بما كان أو بما هو كائن. ولا ينظر الاقتصاديون إلى الحقائق الاقتصادية نظرة العلماء إلى الحقائق العلمية الفيزيقية مثلاً؛ ولذلك لا يرون ضرورة دراستها دراسة نظرية قبل محاولة الإصلاح. ثم أنهم يظنون أن الناحية الاقتصادية بعيدة كل البعد عن بقية نواحي الحياة الاجتماعية أو أنها مستقلة بذاتها، بينما يرى إميل دوركهايم أننا لا يمكننا تفسير الظاهرات الاقتصادية إذا لم نعتمد ونلتجئ إلى بقية الظاهرات الاجتماعية؛ فأجر العمال مثلاً لا يتوقف فقط على العلاقة بين (العرض والطلب) بل على علاقات أخرى اجتماعية أخلاقية كنظرتنا إلى الشخص الإنساني واعتباره وفكرتنا عنه وتقديرنا له من حيث هو إنسان

 

فواضح إذن من التحليل السابق كيف أن علم الاجتماع لا يدرس مشكلة واحدة بل عدة مشاكل، بحيث لا يمكن لإنسان أن يلم بمشاكله جميعها، بل لابد من أن يتخصص في إحداها. وليس هذا يعني أن ليس هناك علم كلي تركيبي يجمع النتائج الهامة لكل فرع من هذه الفروع الجزئية؛ فإنه مهما كانت الظاهرات الاجتماعية مختلفة ومتعددة، فإنها ليست إلا أنواعاً لجنس واحد. ومن الممكن دراسة ما يؤلف وحدة الجنس وما يميز الظاهرة الاجتماعية في ذاتها. والعلم الذي يهتم بذلك هو علم الاجتماع العام الذي يستخرج القوانين العامة من الجزئيات. وهذا هو الجانب الفلسفي لعلم الاجتماع

 

المنهج الاجتماعي وآلياته التحليلية والتفسيرية

إن المشاكل الرئيسية في علم الاجتماع تتلخص في البحث عن كيفية تكوين نظام سياسي أو قانوني أو ديني الخ. . . وعن أسباب وجود تلك النظم. والتاريخ المقارن هو أحسن وسيلة تساعد الاجتماعي على حل هذه المسائل. فالنظم الاجتماعية معقدة أشد التعقيد ومركبة من أجزاء عديدة، فلكي نفهمها لابد لنا من أن ندرس كلا من هذه الأجزاء على حدة، لأننا لن نفيد شيئاً من دراسة النظام كاملاً على ما هو عليه الآن، بل لابد من الرجوع إلى بداية نشوئه ومتابعة تطوره خلال التاريخ ملاحظين ارتباط هذه الأجزاء المنفصلة بعضها ببعض حتى يصل النظام الاجتماعي إلى شكله الحالي. . . لنأخذ مثلاً لذلك ظاهرة القرابة وهي من الظاهرات التي تبدو بسيطة؛ فإننا حينما نحاول دراستها تظهر لنا لأول وهلة فكرة القرابة الأبوية؛ ولكننا إذا نقبنا خلال التاريخ ظهرت لنا فكرة أخرى وتصور آخر عن القرابة وهي القرابة التي تنتمي إلى الأم؛ فهناك عائلات نعرفها خلال دراسة التاريخ لا تعرف إلا هذا النوع الأخير من القرابة، ولا تلعب القرابة الأبوية فيها إلا دروساً ثانوية. ولكن القرابة الآن مزدوجة، تعتبر الناحية الأبوية كما تعتبر الأم، فكيف وصل هذا النظام إلى ذلك؟ هنا أيضاً نتبع خلال التاريخ مرور هذه الظاهرة في كلتا الحالتين خلال حضارات مختلفة، حتى يندمجا معاً ويصلا إلينا على هذه الصورة الحالية المزدوجة. فبالتاريخ إذن نفسر ونبين علل الظاهرات الموجودة؛ والتاريخ يلعب في نظام الحقائق الاجتماعية دوراً يماثل الدور الذي يلعبه الميكروسكوب في نظام الحقائق الفيزيقية

 


علم الاجتماع نوع من التاريخ

وبذلك يمكن القول إن علم الاجتماع هو إلى حد كبير نوع من التاريخ. والمؤرخ أيضاً يعالج الظاهرات الاجتماعية، ولكنه يعتبرها من ناحية خاصة من حيث تعلقها بشعب من الشعوب في زمن معين وفي مرحلة معينة من مراحل تطوره. أما الاجتماعي فإنه يحاول الوصول إلى علاقات عامة وقوانين كلية عن المجتمعات المختلفة. نعم قد يدرس دراسة خاصة ظاهرة ما مثل حالة الدين أو القانون مثلاً في فرنسا أو إنكلترا أو روما أو الهند في هذا القرن أو ذاك، ولكن مثل هذه الدراسات إنما هي في الواقع وسائل فقط للوصول إلى بعض عوامل الحياة الدينية على وجه العموم؛ ولذا فإن الاجتماعي يقارن في دراستين مجتمعات من نفس النوع أو بين مجتمعات من أجناس مختلفة ليتأدى إلى ما يريد وهناك منهج آخر عند إميل دوركهايم غير التاريخ، وهذا المنهج نستخدمه حينما نبحث لا عن كيف تكون نظام اجتماعي ما، بل سبب تمثل هذا النظام أو هذه الظاهرة في هذه المجتمعات تمثلا متفاوتاً. مثلاً حينما نعرض لدراسة ظاهرة مثل جريمة القتل؛ فإننا بدلا من أن نبحث أين تأتي هذه الظاهرة، نتساءل عن أسباب تفاوت حظ المجتمعات المختلفة منها، فبعضها تشيع فيها بكثرة، وبعضها لا تظهر فيها إلا قليلاً. وكذلك الحال في ظاهرة تفاوت الزواج والطلاق كثرة وقلة في المجتمعات المختلفة وهكذا. ففي مثل هذه المسائل نلجأ إلى الإحصاء


الموضوعية المطلوبة في المنهج الاجتماعي 

ومهما يكن المنهج الخاص الذي يتبعه الاجتماعي في دراسته فإنه يجب عليه حين يدرس ظاهرة ما أن يتناسى تماماً كل فكرة قد يكون كونها لنفسه فيما سبق، وأن يتناول الظاهرة كما يتناول علماء الطبيعة والكيمياء والفسيولوجيا والسيكولوجيا موضوعات دراستهم، وإن كان من الصعب تحقيق ذلك في علم الاجتماع، لأننا نكون أثناء حياتنا اليومية بعض أفكار عن الأخلاق والقانون والمعاملات الاقتصادية وغير ذلك. ومن العسير نسيان هذه الأفكار.

 

نشر هذا المقال المهم في العدد 536 من مجلة الرسالة بتاريخ 11 أكتوبر 1943

بتاريخ: 11 - 10 - 1943

تعليقات

التنقل السريع